كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وما يذكر إلا أولو الألباب}.
وكأنه ليس بين أولي الألباب وإدراك الحق إلا أن يتذكروا.. فإذا الحق المستقر في فطرتهم الموصولة بالله، ينبض ويبرز ويتقرر في الألباب.
عندئذ تنطلق ألسنتهم وقلوبهم في دعاء خاشع وفي ابتهال منيب: أن يثبتهم على الحق، وألا يزيغ قلوبهم بعد الهدى، وأن يسبغ عليهم رحمته وفضله.. ويتذكرون يوم الجمع الذي لا ريب فيه، والميعاد الذي لا خلف له: {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة أنك أنت الوهاب ربنا أنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد}.
هذا هو حال الراسخين في العلم مع ربهم؛ وهو الحال اللائق بالإيمان؛ المنبثق من الطمأنينة لقول الله ووعده؛ والثقة بكلمته وعهده؛ والمعرفة برحمته وفضله؛ والإشفاق مع هذا من قضائه المحكم وقدره المغيب؛ والتقوى والحساسية واليقظة التي يفرضها الإيمان على قلوب أهله، فلا تغفل ولا تغتر ولا تنسى في ليل أو نهار..
والقلب المؤمن يدرك قيمة الاهتداء بعد الضلال. قيمة الرؤية الواضحة بعد الغبش. قيمة الاستقامة على الدرب بعد الحيرة. قيمة الطمأنينة للحق بعد الأرجحة. قيمة التحرر من العبودية للعبيد بالعبودية لله وحده. قيمة الاهتمامات الرفيعة الكبيرة بعد اللهو بالاهتمامات الصغيرة الحقيرة.. ويدرك أن الله منحه بالإيمان كل هذا الزاد.. ومن ثم يشفق من العودة إلى الضلال، كما يشفق السائر في الدرب المستقيم المنير أن يعود إلى التخبط في المنعرجات المظلمة.
وكما يشفق من ذاق نداوة الظلال أن يعود إلى الهجير القائظ والشواظ! وفي بشاشة الإيمان حلاوة لا يدركها إلا من ذاق جفاف الإلحاد وشقاوته المريرة. وفي طمأنينة الإيمان حلاوة لا يدركها إلا من ذاق شقوة الشرود والضلال!
ومن ثم يتجه المؤمنون إلى ربهم بذلك الدعاء الخاشع: {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا}.
وينادون رحمة الله التي أدركتهم مرة بالهدى بعد الضلال، ووهبتهم هذا العطاء الذي لا يعدله عطاء: {وهب لنا من لدنك رحمة أنك أنت الوهّاب}.
وهم بوحي إيمانهم يعرفون أنهم لا يقدرون على شيء إلا بفضل الله ورحمته.. وأنهم لا يملكون قلوبهم فهي في يد الله.. فيتجهون إليه بالدعاء أن يمدهم بالعون والنجاة.
عن عائشة- رضي الله- عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما يدعو: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك» قلت: يا رسول الله، ما أكثر ما تدعو بهذا الدعاء. فقال: «ليس من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن. إذا شاء أن يقيمه أقامه، وإن شاء أن يزيغه أزاغه».
ومتى استشعر القلب المؤمن وقع المشيئة على هذا النحو لم يكن أمامه إلا أن يلتصق بركن الله في حرارة. وأن يتشبث بحماه في إصرار، وأن يتجه إليه يناشده رحمته وفضله، لاستبقاء الكنز الذي وهبه، والعطاء الذي أولاه!
بعد هذا البيان يتجه إلى تقرير مصير الذين كفروا، وسنة الله التي لا تتخلف في أخذهم بذنوبهم، وإلى تهديد الذين يكفرون من أهل الكتاب، ويقفون لهذا الدين، ويلقن الرسول صلى الله عليه وسلم أن ينذرهم، ويذكرهم ما رأوه بأعينهم في غزوة بدر من نصر القلة المؤمنة على حشود الكافرين: {إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئًا وأولئك هم وقود النار كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد العقاب قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار}.
إن هذه الآيات واردة في صدد خطاب بني إسرائيل، وتهديدهم بمصير الكفار قبلهم وبعدهم. وفيها لفتة لطيفة عميقة الدلالة كذلك.. فهو يذكرهم فيها بمصير آل فرعون.. وكان الله سبحانه قد أهلك آل فرعون وأنجى بني إسرائيل. ولكن هذا لا يمنحهم حقًا خاصًا إذا هم ضلوا وكفروا، ولا يعصمهم أن يوصموا بالكفر إذا هم انحرفوا، وأن ينالوا جزاء الكافرين في الدنيا والآخرة كما نال آل فرعون الذين أنجاهم الله منهم!
كذلك يذكرهم مصارع قريش في بدر- وهم كفار- ليقول لهم: إن سنة الله لا تتخلف.
وإنه لا يعصمهم عاصم من أن يحق عليهم ما حق على قريش. فالعلة هي الكفر. وليس لأحد على الله دالة، ولا له شفاعة إلا بالإيمان الصحيح!
{إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئًا وأولئك هم وقود النار}.
والأموال والأولاد مظنة حماية ووقاية؛ ولكنهما لا يغنيان شيئًا في ذلك اليوم الذي لا ريب فيه، لأنه لا إخلاف لميعاد الله. وهم فيه: {وقود النار}.. بهذا التعبير الذي يسلبهم كل خصائص الإنسان ومميزاته، ويصورهم في صورة الحطب والخشب وسائر وقود النار.
لا بل إن الأموال والأولاد، ومعهما الجاه والسلطان، لا تغني شيًا في الدنيا: {كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد العقاب}.
وهو مثل مضى في التاريخ مكرورًا، وقصة الله في هذا الكتاب تفصيلًا: وهو يمثل سنة الله في المكذبين بآياته، يجريها حيث يشاء. فلا أمان إذن ولا ضمان لمكذب بآيات الله.
وإذن فالذين كفروا وكذبوا بدعوة محمد صلى الله عليه وسلم وآيات الكتاب الذي نزله عليه بالحق، معرضون لهذا المصير في الدنيا والآخرة سواء.. ومن ثم يلقن الرسول صلى الله عليه وسلم أن ينذرهم هذا المصير في الدارين، وأن يضرب لهم المثل بيوم بدر القريب، فلعلهم نسوا مثل فرعون والذين من قبله في التكذيب والأخذ الشديد: {قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار}.
وقوله تعالى: {يرونهم مثليهم رأي العين} يحتمل تفسيرين: فإما أن يكون ضمير يرون راجعًا إلى الكفار، وضمير هم راجعًا إلى المسلمين، ويكون المعنى أن الكفار على كثرتهم كانوا يرون المسلمين القليلين {مثليهم}.. وكان هذا من تدبير الله حيث خيل للمشركين أن المسلمين كثرة وهم قلة، فتزلزلت قلوبهم وأقدامهم.
وإما أن يكون العكس، ويكون المعنى أن المسلمين كانوا يرون المشركين {مثليهم} هم- في حين أن المشركين كانوا ثلاثة أمثالهم- ومع هذا ثبتوا وانتصروا.
والمهم هو رجع النصر إلى تأييد الله وتدبيره.. وفي هذا تخذيل للذين كفروا وتهديد. كما أن فيه تثبيتا للذين آمنوا وتهوينا من شأن أعدائهم فلا يرهبونهم.. وكان الموقف- كما ذكرنا في التمهيد للسورة- يقتضي هذا وذاك.. وكان القرآن يعمل هنا وهناك..
وما يزال القرآن يعمل بحقيقته الكبيرة. وبما يتضمنه من مثل هذه الحقيقة.. إن وعد الله بهزيمة الذين يكفرون ويكذبون وينحرفون عن منهج الله، قائم في كل لحظة.
ووعد الله بنصر الفئة المؤمنة- ولو قل عددها- قائم كذلك في كل لحظة. وتوقف النصر على تأييد الله الذي يعطيه من يشاء حقيقة قائمة لم تنسخ، وسنة ماضية لم تتوقف.
وليس على الفئة المؤمنة إلا أن تطمئن إلى هذه الحقيقة؛ وتثق في ذلك الوعد؛ وتأخذ للأمر عدته التي في طوقها كاملة؛ وتصبر حتى يأذن الله؛ ولا تستعجل ولا تقنط إذا طال عليها الأمد المغيب في علم الله، المدبر بحكمته، المؤجل لموعده الذي يحقق هذه الحكمة.
{إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار}.
ولابد من بصر ينظر وبصير تتدبر، لتبرز العبرة، وتعيها القلوب. وإلا فالعبرة تمر في كل لحظة في الليل والنهار!
وفي مجال التربية للجماعة المسلمة يكشف لها عن البواعث الفطرية الخفية التي من عندها يبدأ الانحراف؛ إذا لم تضبط باليقظة الدائمة؛ وإذا لم تتطلع النفس إلى آفاق أعلى؛ وإذا لم تتعلق بما عند الله وهو خير وأزكى.
إن الاستغراق في شهوات الدنيا، ورغائب النفوس، ودوافع الميول الفطرية هو الذي يشغل القلب عن التبصر والاعتبار؛ ويدفع بالناس إلى الغرق في لجة اللذائذ القريبة المحسوسة؛ ويحجب عنهم ما هو أرفع وأعلى؛ ويغلظ الحس فيحرمه متعة التطلع إلى ما وراء اللذة القريبة؛ ومتعة الاهتمامات الكبيرة اللائقة بدور الإنسان العظيم في هذه الأرض؛ واللائقة كذلك بمخلوق يستخلفه الله في هذا الملك العريض.
ولما كانت هذه الرغائب والدوافع- مع هذا- طبيعية وفطرية، ومكلفة من قبل البارئ- جل وعلا- أن تؤدي للبشرية دورًا أساسيًا في حفظ الحياة وامتدادها، فإن الإسلام لا يشير بكبتها وقتلها، ولكن إلى ضبطها وتنظيمها، وتخفيف حدتها واندفاعها؛ وإلى أن يكون الإنسان مالكًا لها متصرفًا فيها، لا أن تكون مالكة له متصرفة فيه؛ وإلى تقوية روح التسامي فيه والتطلع إلى ما هو أعلى.
ومن ثم يعرض النص القرآني الذي يتولى هذا التوجيه التربوي.. هذه الرغائب والدافع، ويعرض إلى جوارها على امتداد البصر ألوانًا من لذائذ الحس والنفس في العالم الآخر، ينالها من يضبطون أنفسهم في هذه الحياة الدنيا عن الاستغراق في لذائذها المحببة، ويحتفظون بإنسانيتهم الرفيعة.
وفي آية واحدة يجمع السياق القرآني أحب شهوات الأرض إلى نفس الإنسان: النساء والبنين والأموال المكدسة والخيل والأرض المخصبة والأنعام.. وهي خلاصة للرغائب الأرضية. إما بذاتها، وإما بما تستطيع أن توفره لأصحابها من لذائذ أخرى.. وفي الآية التالية يعرض لذائذ أخرى في العالم الآخر: جنات تجري من تحتها الأنهار. وأزواج مطهرة. وفوقها رضوان من الله.. وذلك كله لمن يمد ببصره إلى أبعد من لذائذ الأرض، ويصل قلبه بالله على النحو الذي تعرضه آيتان تاليتان: {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار}.
{زين للناس}. وصياغة الفعل للمجهول هنا تشير إلى أن تركيبهم الفطري قد تضمن هذا الميل؛ فهو محبب ومزين.. وهذا تقرير للواقع من أحد جانبيه. ففي الإنسان هذا الميل إلى هذه الشهوات، وهو جزء من تكوينه الأصيل، لا حاجة إلى إنكاره، ولا إلى استنكاره في ذاته. فهو ضروري للحياة البشرية كي تتأصل وتنمو وتطرد- كما أسلفنا- ولكن الواقع يشهد كذلك بأن في فطرة الإنسان جانبًا آخر يوازن ذلك الميل، ويحرس الإنسان أن يستغرق في ذلك الجانب وحده؛ وأن يفقد قوة النفخة العلوية أو مدلولها وإيحاءها. هذا الجانب الآخر هو جانب الاستعداد للتسامي، والاستعداد لضبط النفس ووقفها عند الحد السليم من مزاولة هذه الشهوات. الحد الباني للنفس وللحياة؛ مع التطلع المستمر إلى ترقية الحياة ورفعها إلى الأفق الذي تهتف إليه النفحة العلوية، وربط القلب البشري بالملإ الأعلى والدار الآخرة ورضوان الله.. هذا الاستعداد الثاني يهذب الاستعداد الأول، وينقيه من الشوائب، ويجعله في الحدود المأمونة التي لا يطغى فيها جانب اللذة الحسية ونزعاتها القريبة، على الروح الإنسانية وأشواقها البعيدة.. والاتجاه إلى الله، وتقواه، هو خيط الصعود والتسامي إلى تلك الأشواق البعيدة.
{زين للناس حب الشهوات}.. فهي شهوات مستحبة مستلذة؛ وليست مستقذرة ولا كريهة. والتعبير لا يدعو إلى استقذارها وكراهيتها؛ إنما يدعو فقط إلى معرفة طبيعتها وبواعثها، ووضعها في مكانها لا تتعداه، ولا تطغى على ما هو أكرم في الحياة وأعلى. والتطلع إلى آفاق أخرى بعد أخذ الضروري من تلك الشهوات في غير استغراق ولا إغراق!
وهنا يمتاز الإسلام بمراعاته للفطرة البشرية وقبولها بواقعها، ومحاولة تهذيبها ورفعها، لا كبتها وقمعها.. والذين يتحدثون في هذه الأيام عن الكبت وأضراره، وعن العقد النفسية التي ينشئها الكبت والقمع، يقررون أن السبب الرئيسي للعقد هو الكبت وليس هو الضبط.. وهو استقذار دوافع الفطرة واستنكارها من الأساس، مما يوقع الفرد تحت ضغطين متعارضين: ضغط من شعوره- الذي كونه الإيحاء أو كونه الدين أو كونه العرف- بأن دوافع الفطرة دوافع قذرة لا يجوز وجودها أصلًا، فهي خطيئة ودافع شيطاني! وضغط هذه الدوافع التي لا تغلب لأنها عميقة في الفطرة، ولأنها ذات وظيفة أصيلة في كيان الحياة البشرية، لا تتم إلا بها، ولم يخلقها الله في الفطرة عبثًا.
وعندئذ وفي ظل هذا الصراع تتكون العقد النفسية.. فحتى إذا سلمنا جدلًا بصحة هذه النظريات النفسية، فإننا نرى الإسلام قد ضمن سلامة الكائن الإنساني من هذا الصراع بين شطري النفس البشرية. بين نوازع الشهوة واللذة، وأشواق الارتفاع والتسامي.. وحقق لهذه وتلك نشاطها المستمر في حدود التوسط والاعتدال.
{زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث}.
والنساء والبنون شهوة من شهوات النفس الإنسانية قوية.. وقد قرن اليهما {القناطير المقنطرة} من الذهب والفضة.. ونهم المال هو الذي ترسمه {القناطير المقنطرة} ولو كان يريد مجرد الميل إلى المال لقال: والأموال. أو والذهب والفضة. ولكن القناطير المقنطرة تلقي ظلًا خاصًا هو المقصود. ظل النهم الشديد لتكديس الذهب والفضة. ذلك أن التكديس ذاته شهوة. بغض النظر عما يستطيع المال توفيره لصاحبه من الشهوات الأخرى!
ثم قرن إلى النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة.. الخيل المسومة. والخيل كانت- وما تزال حتى في عصر الآلة المادي اليوم- زينة محببة مشتهاة. ففي الخيل جمال وفتوة وانطلاق وقوة. وفيها ذكاء وألفة ومودة. وحتى الذين لا يركبونها فروسية، يعجبهم مشهدها، ما دام في كيانهم حيوية تجيش لمشهد الخيل الفتية!
وقرن إلى تلك الشهوات الأنعامَ والحرث. وهما يقترنان عادة في الذهن وفي الواقع.. الأنعام والحقول المخصبة.. والحرث شهوة بما فيه من مشهد الإنبات والنماء. وإن تفتح الحياة في ذاته لمشهد حبيب فإذا أضيفت إليه شهوة الملك، كان الحرث والأنعام شهوة.
وهذه الشهوات التي ذكرت هنا هي نموذج لشهوات النفوس، يمثل شهوات البيئة التي كانت مخاطبة بهذا القرآن؛ ومنها ما هو شهوة كل نفس على مدار الزمان. والقرآن يعرضها ثم يقرر قيمتها الحقيقية، لتبقى في مكانها هذا لا تتعداه، ولا تطغى على ما سواه: {ذلك متاع الحياة الدنيا}.
ذلك كله الذي عرضه من اللذائذ المحببة- وسائر ما يماثله من اللذائذ والشهوات- متاع الحياة الدنيا. لا الحياة الرفيعة، ولا الآفاق البعيدة.. متاع هذه الأرض القريب.. فأما من أراد الذي هو خير.. خير من ذلك كله. خير لأنه أرفع في ذاته. وخير لأنه يرفع النفس ويصونها من الاستغراق في الشهوات، والانكباب على الأرض دون التطلع إلى السماء.. من أراد الذي هو خير فعند الله من المتاع ما هو خير. وفيه عوض كذلك عن تلك الشهوات: {قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد}.
وهذا المتاع الأخروي الذي تذكره الآية هنا، ويؤمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبشر به المتقين، هو نعيم حسي في عمومه.